التوازن والاعتدال
يمتاز المنهج التربوي عند أهل البيت : بالتوازن والاعتدال في جميع جوانبه المرتبطة بالإنسان ،
فيضع لكل شيء حدوده وقيوده ، فلا يطغى جانب على آخر ولا ناحية على اُخرى ، فهو يراعي حاجات
الجسد وحاجات الروح في آن واحد ، ويراعي حاجات الإنسان بشطريه : الذكر والأنثى ، ويراعي حاجات
الفرد والمجتمع فلا تطغى حاجة على اُخرى ولا جانب على آخر ولا حق على آخر.
والمنهج التربوي الموجه للإنسان والمجتمع نحو الآخرة يوازن بين طلب الدنيا وطلب الآخرة ، فلا يمنع من
التمتع بالطيبات الدنيوية كالمأكل والمشرب والملبس والمسكن والاشباع العاطفي والجنسي ، لأنّ الحرمان
منها يولد القلق والاضطراب ، وإنما يضع القيود على تلك الطيبات ، ويوجه الإنسان في نفس الوقت إلى الاعداد
للدار الآخرة بالالتزام بالأوامر والنواهي الإلهية ، فلا يطغى طلب الدنيا على طلب الآخرة بالانغماس بالطيبات
والملذات دون قيود أو حدود ، ولايطغى طلب الآخرة على طلب الدنيا بحرمان الإنسان من متعها المشروعة.
قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) : « اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات : ساعة لمناجاة الله ،
وساعة لأمر المعاش ، وساعة لمعاشرة الاخوان والثقات الذين يعرّفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن ،
وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرّم ، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات » (1).
وقال العلاء بن زياد لأمير المؤمنين (ع) : أشكو إليك أخي عاصم ، قال : وما له ؟ قال : لبس العباءة وتخلى عن
الدنيا ، قال : عَلَيّ به ، فلما جاء قال (ع) : « يا عَدِيَّ نفسه ! لقد استهام بك الخبيث ! أما رحمت أهلك وولدك !
أترى الله أحل لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ! أنت أهون على الله من ذلك ».
قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك !
قال : « ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ الله فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره » (2).
والدعوة إلى التوازن والاعتدال شاملة لجميع المرافق والميادين ، ومنها الميدان النفسي ، فالتوازن مطلوب
في مختلف الظروف والأحوال المحيطة بالإنسان.
في وصية أمير المؤمنين(ع) للإمام الحسين(ع) قال : « يا بنيّ أوصيك بتقوى الله في الغنى والفقر ، وكلمة الحقّ
في الرضى والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وبالعدل على الصديق والعدو ، وبالعمل في النشاط والكسل ،
والرضى عن الله في الشدّة والرخاء » (3).
والمنهج التربوي متوازن في نظرته للعلاقة العملية بين الإنسان وخالقه ، فلا يدعو إلى ترك العمل توكلاً على الله ،
ولا الانغماس بالعمل بلا توكّل ، والتوكل يمنح الإنسان طاقة وقوّة حيوية تجعله مطمئناً سواء تحقّق ما أراده من عمله
أم لم يتحقّق ، ومعوقات انجاز العمل لا تسلبه الاطمئنان وهو متوكّل على الله.
ويدعو المنهج التربوي إلى الإيمان المتوازن ابتداءً بأصل الإيمان ؛ حيث التوازن بين إيمان أصحاب الخرافة الذين يسرفون
في الاعتقاد ويؤمنون بكل شيء ويصدقونه وإن كان خارجاً عن أسس الإيمان ، وبين الذين ينكرون كل ما وراء الحسّ
وما وراء الطبيعة ، والتربية على الإيمان الواقعي قائمة على أساس العقل والبرهان ، وعلى النصوص المتواترة عن
رسول الله 6 وعن أهل البيت : ليستجيب لها الإنسان عن قناعة وقبول دون إكراه أو اجبار أو تزوير للحقائق ، وكذا الحال
في الإيمان بالأنبياء ، فإنّ المنهج التربوي يدعو إلى التأسي والاقتداء بهم ، فينفي عنهم صفة الألوهية ، وينفي عنهم
الانحراف الذي تدّعيه بعض الديانات ، ويوجه الإنسان إلى الإيمان الواقعي بهم.
ويوازن المنهج التربوي بين التكليف والقدرة ، فلا يكلّف الإنسان فوق طاقته البدنية والروحية ، ويتدرج في أسس التربية
حسب العمر الزمني والعقلي ، فلا يأمر باسلوب شاق ولا أمر شاق ، وهذا التدرج يولد في الإنسان أُنساً وشوقاً لأداء التكليف ،
فيسعى لأدائه والسير على أساسه دون ضجر أو كلل أو ملل.
ويوازن المنهج التربوي بين مجالات المسؤولية ، ويجعلها موزعة على الجميع ، فالفرد مسؤول عن نفسه وعن غيره ،
والمجتمع مسؤول عن نفسه وعن أفراده ، فهنالك مسؤولية فردية ، وهنالك مسؤولية اجتماعية ، والمسؤولية موزعة
فالأب مسؤول عن أسرته والأم كذلك ، والكبير مسؤول عن الصغير ، والمدرسة والتجمعات الاجتماعية والعلماء والدولة
مسؤولة عن الأفراد وعن المجتمع ، وتكون المسؤولية قائمة على أساس تقسيم الحقوق والواجبات ، فللفرد حقوقه
وواجباته ، وللأسرة حقوقها وواجباتها ، وللمجتمع حقوقه وواجباته ، فلا يطغى حق على حق ولا واجب على واجب ،
ولا حق على واجب ، ولا واجب على حق.
ويوازن المنهج التربوي بين الغاية والوسيلة ، فلا يبيح للإنسان استخدام الوسيلة الضعيفة من أجل غاية سامية وشريفة ،
فيحرم الكذب على الغير وإن كان إرضاءً لهم أو يحقّق له أو لهم بعض المصالح ، ويحرّم الخداع والتضليل وإن أدّى إلى
علاج بعض الأزمات النفسية والروحية.
ويوازن المنهج التربوي في أساليب ووسائل التربية ، حيث يبتدأ بالدعوة لاتفاق الوالدين على تطبيق القواعد الكلية
للمنهج التربوي على مصاديقها بأسلوب واحد لا اختلاف فيه ، سواء في العلاقات القائمة بينهما أو علاقاتهما مع الأطفال ،
أو في مفردات الأسلوب ، ويوازن بين اللين والشدة في التعامل فلا افراط ولا تفريط ، فلا يحبّذ اللين الدائم ولا الشدة الدائمة ،
ففي الوقت الذي يدعو إلى الاحسان إلى الطفل وتكريمه وإشعاره بذاته ، يدعو أيضاً إلى استخدام الشدّة في مواقعها
لاشعار الطفل باحترام القوانين الموضوعة ، والتمييز بين حقوقه وحقوق الآخرين ، وفي الوقت الذي يدعو فيه إلى منح الطفل
الحرية في اختيار طريقة اللعب مثلاً ، يدعو للتدخل في منعه من بعض الألعاب المضرّة به وبغيره ، كما يؤكد المنهج التربوي
على التوازن في التعامل مع الأطفال ، والاعتدال في إظهار المحبة لهم ، والتوازن في النظرة العاطفية إلى البنين والبنات.
__________________
(1) تحف العقول : ص 307.
(2) نهج البلاغة : 324.
(3) تحف العقول : ص 58